ما يزال مفاعل نووي طبيعي هو الوحيد على الأرض، ما يثير اهتمام العلماء والجمهور على حدٍ سواء، ليس فقط من قبيل الفضول التاريخي، ولكن بصفته أداة تعليمية وموردًا علميًا.
ووفق قاعدة بيانات الطاقة النووية لدى منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، كانت الطبيعة قد صممت مفاعلها الخاص على مدى مليارات السنين، قبل وقت طويل من تصوُّر البشر للطاقة النووية.
ويمثّل مفاعل أوكلو النووي الطبيعي معجزة جيولوجية، فهو عبارة عن غرفة تحت الأرض، حيث اشتعل خام اليورانيوم المغمور في الماء تلقائيًا، ما أدى إلى إنشاء المفاعل النووي الطبيعي الوحيد على الأرض.
واكتُشِف المفاعل في أعماق الغابون، غرب أفريقيا، منذ نحو مليارَي عام؛ إذ اجتمعت سلسلة من الظروف الطبيعية النادرة والدقيقة لإنشاء ما يعترف به العلماء اليوم بوصفه المفاعل النووي الطبيعي الوحيد المعروف على الأرض.
المفاعل النووي الطبيعي
بدأت قصة المفاعل النووي الطبيعي الوحيد على الأرض في عام 1972، عندما واجه الفيزيائي فرانسيس بيران، الذي كان يعمل في مصنع لمعالجة الوقود النووي في فرنسا، شذوذًا محيرًا في إحدى العينات من خام اليورانيوم.
وأظهرت العينة من خام اليورانيوم المستخرج من منجم في الغابون نسبة نظيرية غير عادية من اليورانيوم 235 (U-235)، تحدّت الفهم العلمي القائم.
ووفق التفاصيل لدى منصة الطاقة المتخصصة، يحتوي اليورانيوم الطبيعي عادةً على 0.720% من اليورانيوم 235، لكن هذه العينة بالذات احتوت على 0.717% فقط.
ورغم أن هذا الاختلاف يبدو ضئيلًا، فإنه كان كبيرًا بما يكفي لإثارة الدهشة ودفع المزيد من التحقيق، وما تلا ذلك كان سلسلة من التحليلات التي من شأنها أن تؤدي إلى كشف رائد.
كان الشك الأولي هو أن اليورانيوم ربما خضع لبعض أشكال التلاعب الاصطناعي أو التخصيب، وهي ممارسة شائعة في إنتاج الطاقة النووية.
ومع ذلك، أكدت دراسات أخرى أن الخام طبيعي تمامًا، ولا تظهر أيّ علامات على التدخل البشري.
كان التفسير الوحيد المعقول هو أن قطعة خام اليورانيوم هذه كانت جزءًا من مفاعل انشطار نووي طبيعي، كان يعمل تلقائيًا منذ مليارات السنين عندما كانت الظروف على الأرض مختلفة تمامًا.
مفاعل أوكلو النووي
أصبح وجود مفاعل أوكلو النووي الطبيعي ممكنًا بفضل التقاء الظروف الجيولوجية والبيئية غير العادية التي عكست، في بعض النواحي، الجوانب الهندسية للمفاعلات النووية الحديثة.
كان تركيز اليورانيوم 235، وهو نظير انشطار طبيعي، هو العامل الأساس في هذه الظاهرة.
قبل نحو مليارَي عام، كانت نسبة اليورانيوم 235 في اليورانيوم الطبيعي نحو 3%، وهي أعلى بكثير من 0.720% اليوم.
كان هذا التركيز المرتفع أمرًا بالغ الأهمية، لأنه سمح بتفاعل نووي متسلسل مستدام، وهو شيء يتكرر بدقّة بعملية تخصيب الوقود في مفاعلات الطاقة النووية المعاصرة.
وكان الماء بالغ الأهمية في أوكلو، إذ عمل بوصفه مهدئًا للنيوترونات؛ أي مادة تعمل على إبطاء النيوترونات المنبعثة من الانشطار حتى تتمكن من الحفاظ على تفاعل متسلسل بمعدل متحكَّم فيه، بحسب التعريفات في الفيزياء النووية.
وفي أوكلو، خدمت المياه الجوفية المتسربة إلى رواسب اليورانيوم هذا الغرض، إذ أبطأت النيوترونات بما يكفي لتمكين الانشطار المستمر دون ارتفاع درجة الحرارة أو الانصهار، وهي عملية تُدار بعناية في المفاعلات الحديثة ذات أنظمة التبريد المتقدمة.
وساعد الاستقرار الجيولوجي للمنطقة أيضًا على إطالة عمر المفاعل؛ فقد وفر التكوين الطبيعي لخام اليورانيوم والحجر الرملي المحيط به وغياب النشاط الجيولوجي المدمّر، مصفوفة مستقرة حافظت على سلامة المفاعل خلال آلاف السنين.
ويتناقض هذا مع هياكل الاحتواء عالية الهندسة وأنظمة السلامة المصممة لعزل التفاعلات والحماية من التدخل البيئي في المفاعلات المصنّعة.
نتائج اكتشاف مفاعل نووي طبيعي
أدى اكتشاف المفاعل النووي الطبيعي الوحيد على الأرض إلى رؤى عميقة في سلوك المواد النووية في ظل الظروف الطبيعية، ما أثّر بشكل كبير في مجالات الفيزياء النووية والعلوم البيئية.
وكان أحد النتائج المثيرة للاهتمام التي توصَّل إليها مفاعل أوكلو هو الدور الذي تؤديه المركبات العضوية الموجودة داخل رواسب اليورانيوم.
ومن المرجّح أن تساعد هذه المواد العضوية في ربط المنتجات الثانوية للانشطار النووي، ومنعها من الانتشار في البيئة.
ويوازي هذا الاحتواء الطبيعي الأساليب الحديثة لإدارة النفايات النووية، إذ تُستعمل الحواجز الاصطناعية والمستودعات الجيولوجية لعزل النفايات المشعّة.
وعلاوةً على ذلك، توفر دراسة منتجات الانشطار وأنماط هجرتها داخل مفاعل أوكلو دراسة حالة فريدة لفهم التفاعلات الطويلة الأجل بين المواد المشعة ومحيطها.
وهذه الأفكار لا تُقدَّر بثمن لتطوير أساليب أكثر أمانًا وكفاءة لتخزين والتخلص من النفايات النووية اليوم.
ويهتم الباحثون خصوصًا بكيفية إسهام النظائر الطبيعية مثل أوكلو، في تصميم مرافق تخزين النفايات النووية مستقبلًا، وضمان قدرتها على احتواء المواد بأمان خلال أوقات زمنية جيولوجية.
ولذلك، فإن الدروس المستفادة من مفاعل أوكلو تتجاوز التطبيقات العملية في مجال الطاقة النووية وإدارة النفايات؛ إذ تتحدى فهمنا لما هو ممكن في الطبيعة، وتدفعنا إلى إعادة تقييم كيفية النظر في العمليات النووية ضمن سياق التاريخ الجيولوجي للأرض، وربما على كواكب أخرى.
عينات من مفاعل أوكلو النووي الطبيعي
اليوم، تُعرَض قطعة ملموسة من مفاعل أوكلو النووي الطبيعي في متحف التاريخ الطبيعي بفيينا، حيث كانت عينة صخرية من موقع المفاعل جزءًا من المعرض الدائم منذ عام 2019.
تعمل هذه العينة، إلى جانب عينات أخرى مخزَّنة في شركة أورانو الفرنسية للطاقة النووية والطاقة المتجددة، بوصفها حلقة وصل مباشرة بالماضي، وتوفر دليلًا ماديًا على الانشطار النووي الطبيعي.
ووفق ما رصدته منصة الطاقة المتخصصة، يؤدي عرض عينات الصخور هذه دورًا حاسمًا في تثقيف الجمهور حول النشاط الإشعاعي الطبيعي.
وقد أكد أمين مجموعة الصخور في المتحف، لودوفيك فيريير، أهمية هذه المعروضات في شرح النشاط الإشعاعي.
فمن خلال عرض أمثلة حقيقية للمواد المشعّة الطبيعية، يساعد المتحف الزوّار على فهم أن النشاط الإشعاعي ليس مجرد منتج ثانوي للتكنولوجيا البشرية، بل هو جزء طبيعي من الأنظمة البيئية والجيولوجية للكوكب.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
المصادر: