لعلي بهذا التعريف المقتضب بالأستاذة الدكتورة عصمت عبد اللطيف دندش أكون قد وفيت بواجبي نحوها، فهي رفيقة درب أستاذي الدكتور محمد بن شريفة، وكنت من أكثر الباحثات قربًا منهما، استفدت منهما واستمتعت برفقتهما خلال مراحل حياتي الدراسية الجامعية وبعدها إلى أن توفاهما الله. وكثيرًا ما كانت جلساتي مع الأستاذة ببيتها أو بيتنا بمدينة سلا أو بالخزانة العامة تروي لي قصة تعرُّفها إلى الأستاذ وموافـقتها على الارتباط به. فهو علامة كبير، ومحقق أثير، وصاحب خُلق رفيع؛ لذلك كان الارتباط به والرحلة إلى المغرب قدرًا عليها أن تعيشه. كما كان لحديثها عنه من خلال شريط يوثق لحياتها وزواجها من الأستاذ ابن شريفة، في ندوة تكريمية/تأبينية للأستاذ بكلية آداب عين الشق بالدار البيضاء يوم 27 نونبر 2019، أثر كبير. وقد عمل على توثيق هذا الشريط مختبر الثقافة والعلوم والآداب العربية/شعبة اللغة العربية وآدابها بنفس الكلية، وهو يؤكد ما كانت تحكيه لي الأستاذة.
الأستاذة الدكتورة عصمت دندش من الباحثات اللائي استغرقهن البحث في تاريخ المغرب منذ زمن طويل، فقد كانت رحلـتها إلى المغرب في إطار زيارة علمية إلى الخزائن المغربية مـوَّلَها معهد الدراسات الإفريقية بالقاهرة لتحضير أطروحتها لنيل الدكتوراه في التاريخ ــ كما تذكر رحمها الله ــ، اعتبارًا لما تضـمه الخزانات المغربية من مؤلفات ووثائق وكنانيش مفيدة في تاريخ المغرب وتاريخ الأندلس. كانت الرحلة إذن إلى المغرب رحلة علمية تهدف إلى التزود بمعلومات وحقائق عن تاريخ الموحدين والمرابطين، وهي الفترة التي واكبت أحداثها منذ التحاقها بمعهد الدراسات الإفريقية بالقاهرة. إذ لم يكن الحصول على الإجازة في التاريخ المحطة التي سترسو عندها سفينتها، بل كان طموحها أن تعمق البحث في ذلك التاريخ بالعودة إلى مضاربه، وكان لها ما أرادت؛ إذ حصلت على منحة علمية تساعدها على تحقيق ذلك، فكانت الرحلة إلى المغرب.
كانت أول محطة لها في المغرب زيارة المكتبة العامة، قسم المخطوطات بالرباط، وكان يرأسه العالم الخبير بالمخطوطات الأستاذ محمد إبراهيم الكتاني رحمه الله (1907 ــ 1990). فـلـقـيت عنده من الترحاب ما شجعها على الانكباب على ما يتوفـر عليه قسم المخطوطات من مؤلفات وكنانيش في تاريخ المغرب في تلك الفترات. ونبهها العلامة الكتاني إلى وجوب زيارة مكتبة الأوسكوريال بإسبانيا، لعلها تجد فيها ما يساعدها على البحث والتنقيب، خاصة وأن العلاقات بين المغرب وإسبانيا في تلك الفترة كانت قوية من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه المكتبة كانت تـتـوفـر على خزانة الأمير زيدان السعدي التي استولى عليها قراصنة إسبان في عرض الشواطئ المغربية، وكانت تـتـوفـر على ذخائر من المؤلفات المختلفة في التاريخ والعلوم والآداب والفلسفة وغيرها.
كما أن الأستاذ الكتاني اقترح عليها الاتصال بالأستاذ الدكتور محمد بن شريفة، المتخصص في الدراسات الأدبية الأندلسية/المغربية، والخبير بالمخطوطات المتعددة، ليساعدها على البحث عن سؤلها. بل أكثر من ذلك ــ وهي لا تعرف أستاذنا ابن شريفة ــ حرص على تنظيم جلسة علمية للقاء بالأستاذ بإشرافه وفي مكتبه بقسم المخطوطات. وكما تذكر الأستاذة عصمت، فإنها استفادت من توجيهاته وتنبيهاته إلى ما يجب الاطلاع عليه كي تـنجح في مهمتها العلمية. واستغرقت رحلتها سنتين (1975 ــ 1977)، وهي سنوات عمل وتنقيب وبحث، استطاعت بعدها أن تلملم موضوع رسالتها العلمية، وما عليها إلا تحرير الرسالة لتقديمها للمناقشة في القاهرة. وكان لجلساتها مع الأستاذ ابن شريفة دور في التعرف إليها ــ كما كان يذكر الأستاذ الكتاني ــ ولتأخذ علاقتها بالأستاذة عصمت منحى آخر، وهو الزواج. أمر لم تستسغه الباحثة عصمت أول الأمر، فهي القادمة لطلب العلم، لكن سـيخبئ القدر لها ما لم يكن في الحسبان، ويبارك الأستاذ الكتاني هذه الخطوة، ويكون من بين من رحـل إلى القاهرة لخطبة الأستاذة من أسرتها، ثم ليتم الزواج بعد ذلك، وترحل الأستاذة إلى المغرب لتستـقر بهذا العش الزوجي الآمن بمدينة تمارة حيث إقامة الأستاذ. وكان يحلو له أن يناديها باستمرار بالدكتورة أو الحاجة.
ونسعد بهذه الزيجة المباركة التي نجحت في تكوين أسرة آمنة يتوجها الابن البار الأستاذ يحيى بن شريفة، الذي لمست خلال معرفتي له وهو طفل وشاب، نضجه وحكمته وصمته وهدوءه. شاب مخـتـلف عن أبناء جيله في تكوينه ومسار حياته، كان حبه لأبويه لافتًا للنظر مهما كانت الظروف، وبروره بهما أحياءً وأمواتًا. أما الشابة شيماء، فكانت تضفي على البيت حيوية ونشاطًا بأحاديثها ومروياتها، فهي لا تـني تتحدث عن علاقـتها بأبويها وعن اعتزازها بكونها الابنة المعجبة بأبيها في صفاء لغته وفي هدوئه وانضباطه، وبأمها في نشاطها العلمي وفي تكريس أوقاتها للبحث والدرس، مع المهمة التي تقوم بها ربة بيت ناجحة لإسعاد زوجها وأسرتها.
الأستاذة عصمت دندش ممن حباهن الله بذاكرة قوية وقدرة على الاستيعاب والمتابعة. فعينها لا تغـفـل أية شاردة أو واردة، سواء في قراءاتها المتخصصة أو في حضورها لملتقيات علمية في المغرب أو خارجه. تشارك وتناقش، وتبدي الرأي الصواب بالدليل والحجة. تبهرك باستمرار بحضور ذاكرتها وقدرتها على السِّـجال المفيد بموضوعية وحسن تدبُّـر. كانت مؤلفاتها تغري بالقراءة والتتـبع، وكان لمؤلفيها الصادرين في نفس السنة 1988 عن دار الغرب الإسلامي: “الأندلس في نهاية المرابطين ومستهل الموحدين: عصر الطوائف الثاني”، و”دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا مع نشر وتحقيق رسائل أبي بكر بن العربي”، ما يضيف جديدًا إلى معلومات كل متخصص في التاريخ المتحدث عنه. مؤلفان يعكسان ما استطاعت الباحثة، بموضوعية، أن تفصح فيهما عن دور المغرب من خلال المؤلفات المغربية أو المشرقية، وفي التعريف بشخصية الدولة المغربية. والاطلاع على هذين المؤلفين بصفة خاصة يؤكد أن الأستاذة الباحثة ذات زاد معرفي تاريخي عن المغرب والأندلس. كل المصادر التي اطلعت عليها تزيدك إعجابًا بما استطاعت تزويد الخزانة المغربية به من معلومات متعددة ومن مصادر مختلفة. وبهذين المؤلفين حصلت على شهادتي الماجستير والدكتوراه من معهد الدراسات الإفريقية/جامعة القاهرة، ومن نفس المعهد، جامعة عين شمس بالقاهرة أيضًا.
ومن مؤلفاتها العديدة أذكر:
“أضواء جديدة على تاريخ المرابطين”، سنة 1999،
“دراسات أندلسية في السياسة والاجتماع”، سنة 2009،
“المرأة بين التراث والمعاصرة”، سنة 2009،
“سراج المريدين في سبيل الدين” لابن العربي، في ستة أجزاء في طبعتين، آخرها سنة 2020، وقد كانت معجبة به إلى حد كبير،
وتحقيق مؤلف أبي العباس بن العريف ــ دفين مراكش ــ “مفتاح السعادة” وتحقيق “طريق الإرادة”، سنة 1993.
وغيرها من المؤلفات والمقالات التي كانت تشارك بها في الندوات العلمية، باحثة تراثية معتزة بالتراث المغربي والعربي. ولها عدد كبير من الأبحاث والمقالات في طيات المجلات المحكمة في المغرب أو في الخارج، مثل “دعوة الحق” و”المناهل” وغيرهما.
ستلتحق الدكتورة عصمت بالجامعة المغربية أستاذةً للتاريخ والحضارة الإسلامية بكلية الآداب/جامعة محمد الخامس بالرباط، ثم بفاس عندما انتـقـل زوجها الأستاذ الدكتور محمد بن شريفة رحمه الله محافظًا لجامعة القرويين. ثم بكلية آداب وجدة عند تأسيسها، حيث عملت رفقة زوجها أول تعيينه عميدًا لهذه الكلية/جامعة محمد الأول فيما بعد، سنة 1978. وبعد ذلك، عادت إلى كلية آداب الرباط، حيث واصلت التدريس إلى أن أحيلت على التقاعد.