وسط تنبيه باحثين ومهتمين بشؤون المنظومة التربوية إلى ضرورة التوقف لتدارس “التراجع الحاصل” في مستوى قوة وجودة العلاقة بين الأطر الإدارية والتربوية، وخصوصا الأساتذة، من جهة، والتلاميذ والتلميذات من جهة ثانية، مستندين إلى تسجيل “وتيرة مقلقة” لحالات العنف الصادر من الطرف الأخير في حق الأول، أبى عشرات المتعلمين بالإعداديات والثانويات المغربية إلا أن ينخرطوا في “ترند” رائج، بتقديم هدايا لأساتذتهم بشكل مفاجئ، “متواضعة”، لكن “حمولتها التعبيرية قوية”، كما يقولون.
ومنذ نحو أسبوع يتوالى على مواقع التواصل الاجتماعي تداول فيديوهات لتلاميذ مؤسسات تعليمية مغربية وهم يفاجئون أساتذتهم بهدايا “رمزية” تشمل قطع شكولاتة وعلب بسكويت وغيرها، في مبادرةٍ، يُصرون على أنها “صغيرة، لكن أهدافها كبيرة: إبداء التقدير والعرفان بالجهود للأساتذة والأستاذات، وتكريس العلاقة النبيلة الإنسانية، التي هي الأصل، بين المعلمين والمتعلمين”.
باحثون ومهتمون ثمّنوا المبادرة بالنظر إلى أنها “تُخفف نوعا من التوتر الحاصل في العلاقة بين الطرفين سالفي الذكر”، و”من شأنها خلق صورة حسنة وجيدة عن هذه العلاقة”، فضلا عن “مساهمتها في توفير بيئة تربوية جديدة تساعد على ترسيخ التعلمات ويسر اكتسابها”.
غير أن جزءا من هؤلاء يشددون على أن “ذلك لا يعني أن مثل هذه المبادرات يجب أن تدفع إلى الاتكال على الأستاذ والتلميذ لإصلاح الخلل في العلاقة بينهما؛ فأساسه جوهري يتعلق بوجود تفاوت بين النموذج التعليمي التقليدي وتطلعات الجيل الرقمي، ما يفرض تحديث هذا النموذج بكافة مكوناته”.
جهد يحتاج التثمين
خالد الصمدي، الخبير التربوي، وكاتب الدولة للتعليم العالي سابقا، قال إن “هذه المبادرات التي نحن بصددها، أو تلك المماثلة التي تخص توديع التلاميذ لأساتذتهم المحالين على التقاعد بالاحتفاء بهم، محمودة ومثمّنة؛ إذ تشكّل نوعا من ‘التنفيس’ من حدة ‘التوتر’ الحاصل في العلاقة بين الأطر التربوية وتلامذتهم”، مبيّنا أنها “تعكس سعي كلا الطرفين إلى خلق صورة جديدة وحسنة عن الروابط القائمة بينهما”.
وسجّل الصمدي، في تصريح لهسبريس، أن “مبادرة التلاميذ المعنيين بتوزيع هدايا رمزية على أساتذتهم يطمحون من خلالها إلى ألا تكون العلاقة سلطوية فوقية، بل أن تصير علاقة تواصل بناء يساهم في اندماجهم في الفضاء التربوي”، مستدركا بأن “هذه فقط تمظهرات وبوادر لا يجب التعويل عليها لوحدها، ومن خلال ذلك على هذين المكونين من المنظومة التربوية، لإزالة التوترات بينهما”.
وأوضح كاتب الدولة للتعليم العالي سابقا أن “ما يساهم في خلق التوترات بين الأطر التربوية والإدارية من جانب، والتلاميذ من الجانب الآخر، هو التناقض الحاصل بين نموذج تربوي تقليدي لم يتطور منذ عقود، بحيث مازال فيه القسم الواحد يزدحم بما يصل إلى 45 تلميذا، ويعتمد الطرق البيداغوجية القديمة في التدريس، وبين متعلمين ينتمون إلى جيل جديد يميل إلى ما هو رقمي، ويقطن الفضاءات الافتراضية أكثر من الواقعية”.
وشددّ المتحدث على أن “هذه الفجوة، أي جيل رقمي جديد يدرس في مدارس قديمة تربويا بيداغوجيا وهندسيا، هو ما يعطي، كما تثبت الدراسات والأبحاث، بعض مظاهر التوتر بين الأطراف سالفة الذكر”، مبرزا أن “هذه التوترات التي تصل إلى حد العنف أحيانا هي طبيعية، ما دامت المدرسة المغربية لم تتكيف مع الحاجيات الحقيقية للمتعلمين”.
اعتبارا لذلك أكد الصمدي أن “الحل الجذري الذي سيساهم في إصلاح الخلل القائم في العلاقة القائمة بين المتعلمين وأطر مدارسهم، تربوية كانت أم إدارية، على المديين المتوسط والبعيد، يتمثل في إعادة النظر في النموذج البيداغوجي، وفي الفضاءات التربوية والتعليمية التي مازالت متمسكة بالطابع التقليدي”، مشيرا إلى أن “هذا لا يَنقص من رمزية هذه المبادرة التي نحن بصددها”.
تجويد التعلمات
قال جمال شفيق، خبير تربوي ومفتش تربوي مركزي سابق، إن “مبادرة تلاميذ بتقديم هدايا لأساتذتهم خلال الآونة الأخيرة، مع قيام بعضهم بذلك تزامنا مع اليوم العالي للغة العربية، هي عربون احترام واعتراف من هؤلاء بعمل الأساتذة والأستاذات، ورفع من قيمتهم المعنوية، ولا يمكن لمكونات المنظومة التربوية والمهتمين بشؤونها إلا أن يعتزوا بها”.
وأضاف شفيق، في تصريح لهسبريس، أن “ما يقوم به التلاميذ في إطار هذه المبادرة يُبرز نمو ثقافة الاعتراف عند الأجيال الحالية؛ هذه القيمة اجتماعية الحميدة التي تساهم في تقوية وتعزيز العلاقة الإنسانية النبيلة بين المدرس وتلامذته، والقائمة على أساس المحبة والاحترام والتقدير المتبادل”.
وأشار الخبير التربوي والمفتش المركزي السابق إلى أن “العلاقة البيداغوجية الإيجابية داخل الفصل مهمة، فهي تشكل حافزا معنويا كبيرا لإنجاح العملية التعليمية التعلمية وتجويد التعلمات”، موضحا أنه “حينما تتأسس وتُبنى علاقة تفاهم ومودة بين الأستاذ وتلامذته فإن فرص ترسخ التعلمات لدى هؤلاء وتمكنهم من الأخيرة ترتفع، ويُخلق جو تربوي إيجابي”.
وشدد شفيق في ختام تصريحه لهسبريس على أن “مثل هذه المبادرات تندرج في إطار المهارات الناعمة التي يشتغل عليها التربويون ويشددون على أهميتها”، موردا أن “رمزيتها تتجلى كذلك في كونها تأتي في ظل تواصل وجود بعض الانحرافات التي لا تلائم المدرسة العمومية والمستوى الذي نتطلع إلى الرقي بها إليه”.